الخميس، 18 فيفري 2010




التكامل العربي- أمل منشود وإنجاز محدود


ظل حلم الوحدة يراود معظم العرب إن لم نقل كل عربي على اختلاف مستوياتهم وتوجّهاتهم ،وبغض النظر عن تباين قراءاتهم لمفهوم الوحدة العربية وكيفية انجازها فقد اشتركت هذه القراءات في الإيمان بأهمية التكامل بين أطراف العالم العربي انطلاقا من ضرورته وكذا انعكاساته الإيجابية ،وهو ما تبرره مقومات كثيرة ميّزت المنطقة العربية عن غيرها من المناطق في العالم
واستنادا إلى الوعي بعائد التواقف (الاعتماد المتبادل) بين الوحدات العربية ،فقد مضت كثير من التجارب أو لنقل المحاولات قدما في سعي منها إلى تحقيق تكامل مختلف القطاعات ،أساسه العمل المشترك الذي يرجع بفائدة على كل قطر أو وحدة عربية لم تكن ترجع عليها وهي منفردة (خارج الكيان الواحد)
هذا وقد تزامنت تلك المحاولات مع انطلاق أشهر التجارب الوحدوية وهي التجربة الأوربية التي تشهد اليوم نجاحا غير مسبوق ،مع العلم أن احدي الانطلاقات العربية والمتمثلة في إنشاء الجامعة العربية (1945) كانت سابقة حتى على معاهدة روما (1957) التي تعد حسب الكثير حجر الأساس في مشروع الوحدة الأوربية ،غير أن الملفت للنظر أن محاولات الوحدة العربية وبعكس التجربة الأوربية لم تسجل أي تطور يعتد به على المستوى القطاعي أو المؤسساتي -باستثناء الوحدة المصرية السورية التي لم تدم طويلا (1957/1961) –
ومن جهة أخرى ارتأى بعض المتخصصين أن القيم المشتركة بين العرب ووحدة الثقافة والمصير لم تعد تشكل خلفية أساسية أو دافعا رئيسيا للتكامل نظرا لتغير كثير من المعطيات وكذا المتطلبات وضرورات التكامل في عالم اليوم الذي يشهد مسرحا حقا للتكتلات الاقتصادية والسياسية وهي الظاهرة التي تسارع نموّها بتسارع خطى العولمة و بدا من المحتم على من يرغب في التفاعل الدولي أن يحدد موقفه منها بل ومكانته بينها ومنه فإن أولائك طالبوا بضرورة الانطلاق من الجبهة الاقتصادية لتكون العملية أكثر ديناميكية فضلا على توفر مقوماتها بين الاقتصاديات العربية ،ثم إن تلك الكيانات البارزة في عالم اليوم كالإتحاد الأوربي و النافتا والآسيان والتي تتوزع بينها الأدوار الأساسية في السياسة الدولية ،إنما كانت بدايتها اقتصادية إن لم نقل أنها في جوهرها كذلك ، وفي ظل كل هذه الظروف فإن الدول العربية تصبح مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى بناء تكتل يضاهي التكتلات المتطورة لتستفيد من إمكاناتها الاقتصادية الهائلة وهو ما يستدعي التحرك على عدة جبهات وبجدية أكبر.
كل هذه المعطيات والحقائق الواقعية تجعلنا نقف أمام تساؤلات عديدة لعل الإجابة عنها تكون فكا لإحدى شفرات لغز التكامل العربي . إلى أي مدى تتماسك العوامل الثقافية والتاريخية بين الكيانات القومية المتمثلة في الأقطار العربية بالصورة التي تجعلها تشكل عمود الوحدة العربية ؟
أليس من حقنا كعرب أن نصل إلى ما وصلت إليه كيانات متباينة الظروف ،فقيرة الموارد ولكن قوية الإرادة؟ هل لنا أو علينا أن نعتبر بتجاربها ؟ أليس من حقنا أن يدوي صوتنا عاليا بينها استنادا إلى ثقلنا المعنوي والمادي و قدرتنا على التماسك والتلاحم الذي يقفز على كل التباينات ؟
ألا يجدر بالدول العربية أن تفكر في انطلاقة فعالة وجدية على مستوى القطاع الاقتصادي ولو باستقلالية مؤقتة إذا كانت القطاعات الأخرى تطغى على الهدف ،وإلا فما فائدة الثروات المادية والإمكانات المتوفرة لديها في غياب تنسيق مطلوب في عالم تحكمه قوانين العولمة وتحدياتها خاصة في النشاط الاقتصادي؟
عاشت بلدان المنطقة العربية خصوصية حضارية شبه منعزلة حتى قبل انتشار الإسلام الذي عرفت به أولى أشكال الحكومة المركزية المتمثلة في الدولة المحمدية - ولكن هذا لا ينفي وجود اتصالات كانت أشهرها تجارية - إنما في ذلك إشارة إلى خبرة التلاحم الثقافي الذي انفردت به المنطقة عن غيرها منذ ما لا يستهان به من القرون ، ورغم ما تعرضت له أغلب أجزائها من غزو خارجي قبل وبعد الإسلام وحتى في العصر الحديث وما تميز به هذا الغزو بالاستهداف المباشر لعوامل التلاقي الثقافي رمز الوحدة آنذاك ، إلا أنها ظلت صامدة في وجه الإستدمار .
وفي مطلع القرن العشرين كانت معظم الدول العربية تحت الإمرة العثمانية ،في الوقت الذي كان مثقفوها يتأملون في التجارب القومية الناجحة قبل ذلك بقليل أي في نهاية القرن 19 ،وما لوحظ عليها أنها قامت على أساس اللغة كالوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية ،وانتبهوا إلى وضعهم ولغتهم فما لبثوا أن جعلوا العروبة رابطة مستحبة في مواجهة العثمانيين ومحاولات " الأتركة " وفعلا حققوا تقدما ومضت كثير من الجمعيات والتنظيمات الثقافية التي تجاوزت حساسية التنوع الديني والمذهبي لتثبت أن العامل الثقافي عنصر مهم في معادلة الوحدة قبل أن تستغله القوى الغازية مرة ثانية لزرع الفتنة بين أهل المنطقة ،فكانوا يفرقون بين المسيحي و المسلم ،والشيعي والسني ، والعربي والكردي... إلى أن انتهت باختزال العروبة في تيارات متناقضة فكان إسلاميون يرون الوحدة في الخلافة الراشدة ولكن بنظرة أكثر تطرفا تهمش الأقليات غير المسلمة ..ومسيحيون ساخطون ربما على مغالاة أغلبية حاكمة غير مسيحية ، وهكذا صار الإطار الثقافي دافعا للتفكك بقدر ما يدفع إلى الوحدة ليثبت أنه لا يكفي بمفرده لتوحيد كيانات قومية متنوعة .
وعلى صعيد آخر لعب عامل التاريخ المشترك دوره في تشكيل أرضية خصبة لبناء الوحدة فيما جعل منه الإستعمار الحديث عامل تفتيت على اثر ما خلّفه من حدود قطرية تطغى على التجانس الفطري لشعوب المنطقة.
إن ما آلت إليه الآمال العربية في الوحدة خاصة في ظروف كانت نظيرتها الأوربية تتسارع في النجاحات ربما بما يفوق توقعاتها ،أضف إلى ذلك ما عانته وتعانيه الأمة في جبهتها الفلسطينية التي دس فيها سم الاحتلال و أدخل المنطقة في صراع عطّل كل تحركاتها نحو التكامل المنشود ،وأمست معظم الجهود إن لم تكن كلها قاب قوسين أو أدنى من أن تذهب في أدراج الرياح وهو ما انعكس من خلال الأوضاع المتردية للبلاد العربية التي خلفت تبعية مؤسفة وإرادات سياسية متعسفة تطغي على كل مقومات التنسيق والتكامل .
على إثر ما سبق يدرك الناظر إلى المنطقتين العربية والأوربية بنوع من المقارنة في جانب العمل المشترك والتنسيق المحكم بين وحدات كل منهما أن فلسفة الوحدة تكمن في دراسة المقومات وترتيب الأولويات وليس فقط في توفر تلك المقومات ، ومن هذا الباب جاءت الدعوة إلى ضرورة اتجاه الجهود العربية إلى الجبهة الاقتصادية ورسم خطط محكمة لاستدراك الإخفاق الحاصل ،وهو الأمر المحتم والمطلوب في عالم اليوم لمواجهة التحديات الدولية من تغيرات في النظام العالمي ،العولمة ،الهيمنة الأمريكية والأوربية ،وغيرها من المشاريع الهادفة إلى طمس الهوية العربية .
وإذا كان التكامل الاقتصادي يعني في أبسط تعريفاته أنه صيغة متقدمة من صيغ العلاقات الاقتصادية تتضمن عملية تنسيق مستمرة ومتصلة ويأتي شمولها للنشاطات بصورة تدريجية ،فإن هذا ما تدعمه وفرة المقومات الاقتصادية للدول العربية على مختلف مستوياتها والتي تقابلها مطالب الواقع المعاش للمواطن العربي من ضرورات التنمية وتوسيع الإنتاج ومن ثم تحرير التجارة البينية وصولا إلى توحيد الجهود على المستوى الجماعي لتنسيق العمل المشترك في تفاعلاتها مع الأطراف الدولية الأخرى.
لا ينكر أحد الإنجاز الذي تحقق على المستوى القومي العربي في مجال التعاون الاقتصادي كمجلس الوحدة الاقتصادية العربية ،اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية ،وفضلا عن ذلك محاولات مجلس الوحدة الاقتصادية في تحقيق الوحدة العربية على مستواها الاقتصادي من خلال مداخلها الأربعة: المدخل التجاري ،المدخل الإنتاجي ،تنسيق خطط التنمية في الوطن العربي ،وتنسيق الموقف العربي تجاه الاقتصاد العالمي ،وهي خطوات جدية تم تحقيقها وصولا إلى منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى إلا أن هذه الجهود تبقى محدودة الفاعلية ما لم تدعم بإستراتيجية شاملة للتكامل الاقتصادي أهم شروطها رفض المشروعات التي تطرح بين الحين والآخر تحت مسميات جديدة كالشرق أوسطية أو المتوسطية والتي تحمل أهدافا خفية لا تخدم الوحدة العربية مرورا بتجاوز الخلافات البينية التي ولدّها تعارض الإرادات السياسية ،وهنا نجد أنفسنا بصدد الإعداد لاقتصاد متكامل بصورة منطقية تعبّد لنا -تدريجيا- طريق الوحدة العربية متعددة القطاعات ،وهو ما سارت عليه ونجحت في تحقيقه الدول الأوربية التي سبق الحديث عنها .
إن وضع المصلحة المشتركة فوق كل اعتبار ،والعمل بإخلاص إلى الانتماء القومي والهوية العربية ،واعتبارات الأمن والقوة العربية المطلوبة ...صارت من أسس البديل الإيجابي لتحقيق الإتحاد العربي الذي يعد التكامل الاقتصادي أهم ركائزه.




عبدالله شوتري
ناشط شبابي و باحث في العلاقات الدولية