الأحد، 17 أكتوبر 2010

موقع العرب من التحولات الكبرى في العالم ؟


موقع العرب من التحولات الكبرى في العالم ؟

(ورقة مقدمة بمناسبة المؤتمر السنوي التاسع لمؤسسة الفكر العربي - بيروت، لبنان 2010 )

في كل سنة على أكثر تقدير تطل علينا مؤسستنا، مؤسسة الفكر العربي من خلال مؤتمرها العام الذي صار حدثا من الواجب على حاملي همّ النهضة العربية أن يقفوا عنده بتأمل يفضّل أن يستثنى، ليس ككل المناسبات ذلك في نظري لاستثناء المقتَرب الذي تعتمده المؤسسة في تحليل قضايا النهضة العربية .

حصل لي الشرف أن كنت مشاركا في حوالي أربعة من أنشطة المؤسسة ضمن البرامج الموجهة للشباب لسنتين خَلت، وقد أثيرت خلال هذه الأنشطة كثير من المواضيع الحساسة التي تمس بقوة في قضايا الوحدة العربية كموضوع الهوية والثقافة العربية (فكر7) والتكامل الاقتصادي (فكر8)، وبناء على تلك الإطلالات لم يكن مفاجئا هذه المرة أن يكون موضوع المؤتمر القادم بحول الله، (فكر9) تحت عنوان : "عالم يرسم المستقبل...أين دور العرب ؟" كما لم يكن مفاجئا أن يثير هذا التساؤل حفيظتي كأحد شباب "فكر" في أقل تقدير، على غرار لهفتي بالبحث في الشؤون العربية وقضايا الوحدة من جهة أخرى. لذلك ارتأيت أن نمر سويا من خلال هذه الورقة على عدد من العناوين التي تثري النقاش حول مسألة الإسهام العربي في رسم مستقبل العالم و إن لم يكن فحول موقعنا كعرب من هذه التحولات كون الأمة العربية قطب معتبر يفترض أن تكون له كلمته الحقة في وضع معالم الحضارة الإنسانية، آملين أن تحقق نقاشاتنا على الأقل انتباها لحالنا واهتماما بقضايانا لا تسليما بواقع لا نرضاه لأنفسنا، ولا شك أن من يشاركني "طموح" النهضة العربية اليوم كحق من حقوقنا يوافقني هذا القول وما أقل ما يمكن تلخيصه إلا في 'من سار على الدرب وصل'


تجاوز بعض الدارسين المستقلين في الغرب كثيرا من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين في الإشادة بإنجازات علمية متعددة المستويات لعلماء ومفكرين عرب كانت لهم بصمة استثنائية في وضع المبادئ الأساسية لعدد من العلوم النظرية والفلسفية ،ولا يختلف اثنان في الإيمان بما قدمه هؤلاء في سبيل تطوير العقل البشري والمضي بالإنسان بعيدا عن تقاليد التعلم المنحصرة في التلقي عن الموروث ،كما لا يختلفان في قيمة الضريبة التي دفعها هؤلاء نظرا لما قوبلت به أفكراهم من رفض وتهميش ،لكنهم فعلا جعلوا لأنفسهم قدما راسخة في حقول العلم ورسم ملامح الحاضر والمستقبل ،وعموما فإن هذا وغيره كثير من ما يثبت دور العرب الحقيقي في الحضارة الإنسانية من جهة ،ليصفع أولئك الهاضمين لحجم هذا الدور . من جهة ثانية بينما أخذت الإشادة بهذا الدور هي الأخرى منحى سلبيا ،كان في بعض الأحيان السبب الأول لابتعاد العرب في القرون المتأخرة عن التنافس الحضاري ،خاصة عندما انحصرت النظرة للعلم والعلماء في تفسيرات منغلقة لا تكاد تخرج عن مفاهيم العلم الشرعي ،أو بلغة أخرى صار العاِلم هو الفقيه وإلا فلا ،إلا أن هذه النظرة شهدت نوعا من التراجع بعد ذلك لصالح صوت العقل وصار هناك نوع من التوازي في الأدوار بين العلم الشرعي والدنيوي على تناغم بين هذا وذاك وينبئ بوضع أكثر انفتاحا وتفاعلا في عصر طفت فيه مفاهيم كالعولمة والديمقراطية والاعتماد المتبادل وغيرها ....تلمح في مدلولها إلى أن صناعة المستقبل في العالم هي نتيجة لعملية تفاعل كبيرة ومعقدة و متعددة الأطراف تبدو المشاركة فيها أمرا حتميا لا مفر منه .

ومع تأكد هذا و وضوحه ،لا يزال حال أمتنا العربية في الانخراط الحضاري- الإنساني محتشما ،من باب الاندماج الموضوعي أو دور العامل العقلاني والنهج العلمي في التفكير العربي* .


إن كثيرا من المتخصصين يرون بقدرة العربي على صياغة المستقبل أو المشاركة في ذلك على الأقل ،يؤكدون ذلك بشواهد عينية تعكسها إنجازات معتبرة هنا وهناك منها ما سبق ذكره ،إلا أنه في مقابل ذلك يتأكد غياب فعالية لهذا الدور في عالم اليوم ،وهو خلفية أساسية تدفعنا إلى إعادة النظر وضرورة إيجاد الوصفات اللازمة لمعالجة وضعنا واستدراك التأخر المسجل كإحدى أولويات العمل العربي المشترك ،ومن هنا تدافعت المداخل بين عدة مجالات يستوجب الانطلاق منها ،فمنهم من يرى في ضرورة المسايرة على مستوى المعرفة والتكنولوجيا ،ومنهم من قال بإعادة النظر في التعليم والمنظومة التربوية ،وصولا إلى مسائل سياسية واقتصادية ذات دلالات بعيدة كالديمقراطية و الاقتصاد الحر ،ثم فكرية بحتة كالحرية والقيم ...إلا أن ما يمكن تسجيله بينها أنها تشترك في مدخل واحد ،أو بالأحرى "اقتراب الإصلاح" ،وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الذي تلعبه مكتبة الإسكندرية والقائمين على مؤتمراتها السنوية المعروفة في إطار" منتدى الإصلاح العربي" الذي طالما مست فعالياته بتركيز هذه القضايا الجوهرية ،والأجدر من ذلك أن نشير إلى نقطة أساسية ،ألا وهي مسألة الأولويات ، فعندما نقول بأن قضية كهذه تكمن من بين أولويات العمل العربي المشترك ،لا يعني ذلك قفزا على واقع مؤسف لا ينقصه من المشاكل غير بحث مدى الإسهام العربي في صياغة مستقبل العالم وترك البصمة العربية في التحولات الكبرى


أنا شخصيا أرى بالعكس من ذلك ولعلي أستوحي هذه الرؤية من منهج المكتبة (مكتبة الإسكندرية) في معالجة هذه النقطة ،فكل ما في الأمر أننا نقترب من الظاهرة بطريقة مختلفة ،ونعالجها من مداخل جديدة لا تصتعصي على نتائجها ظروفنا الداخلية ،بل تكون هي المتلقي الفعلي لنتائج العمل الإيجابي ولو كان ذلك بصورة غير مباشرة بناء على اختلاف الهدف ،إن أقل ما يرمي إليه معنى كلمة الإصلاح هو تصحيح الخلل في أنظمة ما تعاني من جمود أو انحراف في الدور المنتظر منها ،بما ينعكس سلبا على النتائج. وهنا نجد أنفسنا بصدد صياغة مستقبل عربي كجزء لا يتجزأ من مستقبل العالم ككل.

إن جعل هذا المبتغى هدفا ساميا، يستوجب تنسيقا عربيا معتبرا ومحتما يأتي من رؤية موحدة لا من رؤى منفردة ومختلفة لكي تنعكس مخرجاته فعليا في التغيرات التي تحدث في العالم ،وهنا نجد أنفسنا في موقف يتجاهل الخلافات البينية وينحيها جانبا بصفتها عقبات أساسية كما يحصل هذا بالتركيز على محاور الاتفاق التي يكون فيها هذا الأخير مطلوبا ،يحول النظر إلى استغلال الإمكانيات المتاحة والبناء عليها في ما يعرف بالبناء على المكنونات أو الموجودات ،ينطبق الحديث على الهيكل الإعلامي مثلا ،أو الموارد الاقتصادية ،أو الطاقة البشرية ،فعوض أن تتقدم الدول العربية في نسبة النمو السكاني بين دول العالم صار مطلوبا أن تتقدم في الانعكاسات الإيجابية لهذا النمو أو الزيادات


تدور التحولات الكبرى في العالم حول قضايا معينة مكنت للبعض من فرض سيطرته دون البعض الآخر وحين تسأل المواطن العربي البسيط عن سبب تراجع دور العرب في ذلك يعزوه إما للفساد السياسي ،أو التخاذل على مستوى نظم الحكم والرضوخ للاختراقات الخارجية أو غير ذلك ...وبغض النظر عن صحة مبرراته نجده مسلّما بقدرتنا على اعتلاء المراتب الأولى على معرفة بسيطة بإمكانيات غير بسيطة ،أما إذا تساءلنا فيما بيننا عن تلك القضايا لوجدنا في مقدمتها الثورة الرقمية ومجال الطاقة والصناعات المتطورة وغيرها، و في كلها يتمتع العرب بالإمكانات اللازمة لخوض غمار التجربة على بساطة النماذج ولكن العبرة بالنتائج ،ولعل أبسط الأمثلة التي تمكنت من رصدها شخصيا ،الحراك الشبابي على شبكة الإنترنت حيث يلاحظ القاصي والداني ريادة للشباب العربي في كثير من الساحات على الشبكة العنكبوتية ،وهذا الشيء لو تم استغلاله بطريقة هادفة ،منظمة وفاعلة للمسنا التأثير الفعلي للعرب في تطورات عديدة ومنها نمكن لأنفسنا في المجال الرقمي من إحدى نوافذه ،كأن نعمل على دعم المحتوى العربي في العالم الرقمي مثلا


نعم نملك مساحات معتبرة لجعل دورنا إيجابيا أو الزيادة من فاعلية إيجابيتنا، بالصورة التي تعكس تأثيرنا الواضح في تغيرات العالم والفرصة سانحة لتوظيف ذلك في خدمة الهوية العربية وتعزيزها وعلى رأسها اللغة والثوابت الأساسية ،كوننا في عصر ساد فيه الإيمان بكل ما هو رقمي ،وليس الترجمة ببعيدة عن دعم هذا على حد سواء ،من والى العربية و في مختلف القطاعات العلمية والفكرية لنصل إلى تلاقح لغوي عالمي بين العربية وغيرها من اللغات ،ومن ثم إلى التفاعل الحضاري بين العرب وغيرهم وهو الأمر الآخر الذي يكفل لنا ترك بصمتنا باحترام في تغيرات العالم أيضا


دائما نتحدث هكذا ونثير نقاطا ظلت جامدة ودائما ينتهي الحديث بسؤال يُجاب عنه أحيانا ويُتجاهل أحيانا كثيرة ،هو قولنا كيف ،ومن أين نبدأ ؟.. قد يبدو صعبا في طرحه ومناقشته ،إلا أن المسألة كلها تدور حول المدخل الأساسي أو المداخل الجزئية لاقتراب الإصلاح السابق ذكره، إن العمل بطريقة عكسية وبمنهج وظيفي يوحي بأمل ما على صعيد الإنجاز أو بالأحرى "فكر يتبعه الإنجاز" ولا أود أن تنتبه الأنظار مباشرة إلى وضع حكوماتنا ومؤسسات صناعة القرار في بلداننا العربية فالوحدات الفاعلة في عالم اليوم صارت أوسع وأكثر فاعلية وانتشارا من المؤسسات الرسمية ذاتها ،نملك أملا كبيرا في مجتمعنا المدني وفي مؤسساتنا الأهلية التي أثبتت في العديد من التجارب احترافها في التغلغل داخل شرائح المجتمع ،فضلا عن فاعليتها شرط أن يفسح لها المجال بالصورة المطلوبة ،إن هياكل عديدة على غرار مؤسسة الفكر العربي ومكتبة الإسكندرية وغيرها ممن كانت لهم سوابق في التمكين للمواهب أو على الأقل إبرازها إلى العيان ،هذه الهياكل تملك الفرصة المناسبة في وضع الفاعل العربي على المحك خاصة شريحة الشباب العربي المبدع ،نعم نملك مخترعين ومفكرين ومواهب فذه بين شبابنا العربي تحتاج إلى من يضعها في الميدان العالمي والوقوف وراءها وهي طاقات يمكن المراهنة عليها فعلا وبها سيرتفع الصوت العربي بين أصوات العالم ،وسنقول "نعم...فعل هذا ذاك العربي الفذ" وقد قيلت ولا زالت ونطمح لأن ترتفع أكثر ،لا نريد تشاؤما ...،يكفينا خمولا ...،ولنا في الغد أمل كبير.


عبد الله شوتري

ناشط شبابي وباحث ماجستير / الجزائر

الثلاثاء، 8 جوان 2010

الحرية ومشكلات العالم العربي

الحرية ومشكلات العالم العربي

لا يختلف اثنان في ابسط مفهوم للحرية كونه:" التخلص من كل انواع القيود والعقبات التي تحول دون تصرف الانسان بشكل اختياري "،ومع اختلاف شق الحرية بين سياسي واقتصادي و...فإن ذلك يستوجب صيغة تتكيف وهذا الشق ،وأقصد بهذا التكيف ببساطة ان يتحدد نوع الحرية بمجال اتخاذ قرار ما أو مجال تحديد الخيار الشخصي دون قيود مادية أو معنوية

ولما كانت كل المواثيق والاتفاقات الدولية ،الاقليمية والوطنية تضع الحرية عمادا اساسيا في تفاعل الأشخاص والوحدات مع بعضها البعض ،أعطت بذلك اهمية ومكانة اساسية لهذه القيمة او المعيار فلا تجد تعاملا بينياً الا وتكون اولى قواعده الحرية

وفي حال عالمنا العربي يقف المتأمل على عدة ملاحظات في قيمة الحرية... كثيرة هي ، ولا يكاد مجال من المجالات يخلو الحديث عنه من قيمة الحرية ورداءة وضعها ،بل ان غياب الحرية صار يعد السمة المشتركة بين مختلف البلدان العربية تقريبا . حقا انه من الأسباب التي ساهمت وتساهم في توليد المشكلات الراهنة والا فبما نفسر التعدي على الحق في التعبير أو حتى الإرادة الشخصية

ان أقل ما تدعونا اليه كتل المعارضة السياسية وحركات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان من خلال انتقاداتها للأنظمة السياسية في بلداننا العربية هو النظر فيما توفره وتسهر على بقائه من قيود متنوعة تكبّل كل ما يملكه المواطن العربي من وعي بحقوقه وظرورة التمتع بها وممارستها على الأقل كنظيره في المجتمعات الغربية ، وبغض النظر عن الطرف الواقف خلف هذه الانظمة ان كان هناك طرف واحد فإنه لا مفر من التسليم بتعنتها بهدف الحفاظ على الوضع القائم على علم بانعكاسه السلبي على أبسط طرق التنمية حيث سبق وأن حذرت العديد من التقارير التنموية العربية والعالمية و.. من أن معوقات الحرية في المنطقة يحول دون المضي قدما في التعهدات التي تقطعها الحكومات العربية على نفسها

· الحديث عن حرية سياسية يعني الحديث عن حركات تناضل من أجلها استنادا الى عمق جماهري واسع يمثل مختلف شرائح المجتمع وطبقاته وكذا توجهاته ،لا أن تصعد واحدة على حساب الأخرى في مراوغات صارت سنة مشتركه بين البلدان العربية ،لن تتحقق الحرية السياسية بذلك إلا في واقع ذو أعلى مستوى من قبول للآخر على إختلاف رؤيته أو العقيدة السياسية التي يتبناها إن صح القول ،إنه التنوع الذي يمضي بنا قدما الى رفع سقف المساواة السياسية وبها حتما سينتج مزيج من الفكر الناضج على هجينيته .

· الحديث عن حرية سياسية يعني الحديث عن مجتمع فاعل/فعّال ، فالجميع يتفق على رأي القائل بأن "إنجاز التنمية والتطوير يتوقف بالكامل على الفعالية الحرة للشعب " تقاس هذه الفعالية من خلال علاقة الشعب بمن بيده مقاليد السلطة السياسية اوبالأحرى علاقته بنظامه السياسي ، وبالتالي يمكن القول انه من الصعب أن تلقى المشاريع التنموية للأنظمة السياسية تأييدا من مواطنين يفتقدون لأدنى انواع الحوافز ، وبالتالي يمكن القول : أن النجاح في هكذا برامج يعتمد على مدى الفعالية الحرة للعنصر الحي فيها أي المواطن الفرد بغض النظر عن دقة خططها .

· أهمية الطبقة الوسطى : يرى أحد خبراء السياسة في الوطن العربي انه لا يمكن ان يكون هناك نجاح في التقدم والتنمية في الوطن العربي الا بضمان الحريات في البلاد العربية ،حيث أن هذه الأخيرة لاتزال فيها الدول هي التي تقوم بالتنمية وهو ما ادى من جهة اخري الى تهميش وضعف طبقة فاعلة في المجتمعات العربية لها دور اساسي في تحريك آلة التنمية هي "الطبقة الوسطى" كما يؤكد من جهة اخرى بأن ضعف هذه الطبقة عائد الى كبت الدول لها عبر القوانين التي تحد من نموها الذي يدل على نمو المجتمعات

وفي الأخير ثمة اتفاق بين غالبية المفكرين والمختصين على ضرورة احداث نقلة نوعية في مجال توسع دائرة الحريات في الوطن العربي كشرط أساسي ومسبق لسير عجلة التنمية ، يبدأ ذلك من خلال اشراك فعال وبمعانيه المتكاملة على اساس المساواة للقوى المتنوعة في مجتمعاتنا بما يفتح المجال للإبداع والمساهمة البناءة في تجسير الهوة بين الكتل المختلفة وهيئة الحكم ان صح القول على قاعدة الشراكة في السلطة والثروة والمسؤولية

عبدالله شوتري / الجزائر

ناشط شبابي عربي و

باحث ماجستير في العلاقات الدولية


الخميس، 18 فيفري 2010




التكامل العربي- أمل منشود وإنجاز محدود


ظل حلم الوحدة يراود معظم العرب إن لم نقل كل عربي على اختلاف مستوياتهم وتوجّهاتهم ،وبغض النظر عن تباين قراءاتهم لمفهوم الوحدة العربية وكيفية انجازها فقد اشتركت هذه القراءات في الإيمان بأهمية التكامل بين أطراف العالم العربي انطلاقا من ضرورته وكذا انعكاساته الإيجابية ،وهو ما تبرره مقومات كثيرة ميّزت المنطقة العربية عن غيرها من المناطق في العالم
واستنادا إلى الوعي بعائد التواقف (الاعتماد المتبادل) بين الوحدات العربية ،فقد مضت كثير من التجارب أو لنقل المحاولات قدما في سعي منها إلى تحقيق تكامل مختلف القطاعات ،أساسه العمل المشترك الذي يرجع بفائدة على كل قطر أو وحدة عربية لم تكن ترجع عليها وهي منفردة (خارج الكيان الواحد)
هذا وقد تزامنت تلك المحاولات مع انطلاق أشهر التجارب الوحدوية وهي التجربة الأوربية التي تشهد اليوم نجاحا غير مسبوق ،مع العلم أن احدي الانطلاقات العربية والمتمثلة في إنشاء الجامعة العربية (1945) كانت سابقة حتى على معاهدة روما (1957) التي تعد حسب الكثير حجر الأساس في مشروع الوحدة الأوربية ،غير أن الملفت للنظر أن محاولات الوحدة العربية وبعكس التجربة الأوربية لم تسجل أي تطور يعتد به على المستوى القطاعي أو المؤسساتي -باستثناء الوحدة المصرية السورية التي لم تدم طويلا (1957/1961) –
ومن جهة أخرى ارتأى بعض المتخصصين أن القيم المشتركة بين العرب ووحدة الثقافة والمصير لم تعد تشكل خلفية أساسية أو دافعا رئيسيا للتكامل نظرا لتغير كثير من المعطيات وكذا المتطلبات وضرورات التكامل في عالم اليوم الذي يشهد مسرحا حقا للتكتلات الاقتصادية والسياسية وهي الظاهرة التي تسارع نموّها بتسارع خطى العولمة و بدا من المحتم على من يرغب في التفاعل الدولي أن يحدد موقفه منها بل ومكانته بينها ومنه فإن أولائك طالبوا بضرورة الانطلاق من الجبهة الاقتصادية لتكون العملية أكثر ديناميكية فضلا على توفر مقوماتها بين الاقتصاديات العربية ،ثم إن تلك الكيانات البارزة في عالم اليوم كالإتحاد الأوربي و النافتا والآسيان والتي تتوزع بينها الأدوار الأساسية في السياسة الدولية ،إنما كانت بدايتها اقتصادية إن لم نقل أنها في جوهرها كذلك ، وفي ظل كل هذه الظروف فإن الدول العربية تصبح مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى بناء تكتل يضاهي التكتلات المتطورة لتستفيد من إمكاناتها الاقتصادية الهائلة وهو ما يستدعي التحرك على عدة جبهات وبجدية أكبر.
كل هذه المعطيات والحقائق الواقعية تجعلنا نقف أمام تساؤلات عديدة لعل الإجابة عنها تكون فكا لإحدى شفرات لغز التكامل العربي . إلى أي مدى تتماسك العوامل الثقافية والتاريخية بين الكيانات القومية المتمثلة في الأقطار العربية بالصورة التي تجعلها تشكل عمود الوحدة العربية ؟
أليس من حقنا كعرب أن نصل إلى ما وصلت إليه كيانات متباينة الظروف ،فقيرة الموارد ولكن قوية الإرادة؟ هل لنا أو علينا أن نعتبر بتجاربها ؟ أليس من حقنا أن يدوي صوتنا عاليا بينها استنادا إلى ثقلنا المعنوي والمادي و قدرتنا على التماسك والتلاحم الذي يقفز على كل التباينات ؟
ألا يجدر بالدول العربية أن تفكر في انطلاقة فعالة وجدية على مستوى القطاع الاقتصادي ولو باستقلالية مؤقتة إذا كانت القطاعات الأخرى تطغى على الهدف ،وإلا فما فائدة الثروات المادية والإمكانات المتوفرة لديها في غياب تنسيق مطلوب في عالم تحكمه قوانين العولمة وتحدياتها خاصة في النشاط الاقتصادي؟
عاشت بلدان المنطقة العربية خصوصية حضارية شبه منعزلة حتى قبل انتشار الإسلام الذي عرفت به أولى أشكال الحكومة المركزية المتمثلة في الدولة المحمدية - ولكن هذا لا ينفي وجود اتصالات كانت أشهرها تجارية - إنما في ذلك إشارة إلى خبرة التلاحم الثقافي الذي انفردت به المنطقة عن غيرها منذ ما لا يستهان به من القرون ، ورغم ما تعرضت له أغلب أجزائها من غزو خارجي قبل وبعد الإسلام وحتى في العصر الحديث وما تميز به هذا الغزو بالاستهداف المباشر لعوامل التلاقي الثقافي رمز الوحدة آنذاك ، إلا أنها ظلت صامدة في وجه الإستدمار .
وفي مطلع القرن العشرين كانت معظم الدول العربية تحت الإمرة العثمانية ،في الوقت الذي كان مثقفوها يتأملون في التجارب القومية الناجحة قبل ذلك بقليل أي في نهاية القرن 19 ،وما لوحظ عليها أنها قامت على أساس اللغة كالوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية ،وانتبهوا إلى وضعهم ولغتهم فما لبثوا أن جعلوا العروبة رابطة مستحبة في مواجهة العثمانيين ومحاولات " الأتركة " وفعلا حققوا تقدما ومضت كثير من الجمعيات والتنظيمات الثقافية التي تجاوزت حساسية التنوع الديني والمذهبي لتثبت أن العامل الثقافي عنصر مهم في معادلة الوحدة قبل أن تستغله القوى الغازية مرة ثانية لزرع الفتنة بين أهل المنطقة ،فكانوا يفرقون بين المسيحي و المسلم ،والشيعي والسني ، والعربي والكردي... إلى أن انتهت باختزال العروبة في تيارات متناقضة فكان إسلاميون يرون الوحدة في الخلافة الراشدة ولكن بنظرة أكثر تطرفا تهمش الأقليات غير المسلمة ..ومسيحيون ساخطون ربما على مغالاة أغلبية حاكمة غير مسيحية ، وهكذا صار الإطار الثقافي دافعا للتفكك بقدر ما يدفع إلى الوحدة ليثبت أنه لا يكفي بمفرده لتوحيد كيانات قومية متنوعة .
وعلى صعيد آخر لعب عامل التاريخ المشترك دوره في تشكيل أرضية خصبة لبناء الوحدة فيما جعل منه الإستعمار الحديث عامل تفتيت على اثر ما خلّفه من حدود قطرية تطغى على التجانس الفطري لشعوب المنطقة.
إن ما آلت إليه الآمال العربية في الوحدة خاصة في ظروف كانت نظيرتها الأوربية تتسارع في النجاحات ربما بما يفوق توقعاتها ،أضف إلى ذلك ما عانته وتعانيه الأمة في جبهتها الفلسطينية التي دس فيها سم الاحتلال و أدخل المنطقة في صراع عطّل كل تحركاتها نحو التكامل المنشود ،وأمست معظم الجهود إن لم تكن كلها قاب قوسين أو أدنى من أن تذهب في أدراج الرياح وهو ما انعكس من خلال الأوضاع المتردية للبلاد العربية التي خلفت تبعية مؤسفة وإرادات سياسية متعسفة تطغي على كل مقومات التنسيق والتكامل .
على إثر ما سبق يدرك الناظر إلى المنطقتين العربية والأوربية بنوع من المقارنة في جانب العمل المشترك والتنسيق المحكم بين وحدات كل منهما أن فلسفة الوحدة تكمن في دراسة المقومات وترتيب الأولويات وليس فقط في توفر تلك المقومات ، ومن هذا الباب جاءت الدعوة إلى ضرورة اتجاه الجهود العربية إلى الجبهة الاقتصادية ورسم خطط محكمة لاستدراك الإخفاق الحاصل ،وهو الأمر المحتم والمطلوب في عالم اليوم لمواجهة التحديات الدولية من تغيرات في النظام العالمي ،العولمة ،الهيمنة الأمريكية والأوربية ،وغيرها من المشاريع الهادفة إلى طمس الهوية العربية .
وإذا كان التكامل الاقتصادي يعني في أبسط تعريفاته أنه صيغة متقدمة من صيغ العلاقات الاقتصادية تتضمن عملية تنسيق مستمرة ومتصلة ويأتي شمولها للنشاطات بصورة تدريجية ،فإن هذا ما تدعمه وفرة المقومات الاقتصادية للدول العربية على مختلف مستوياتها والتي تقابلها مطالب الواقع المعاش للمواطن العربي من ضرورات التنمية وتوسيع الإنتاج ومن ثم تحرير التجارة البينية وصولا إلى توحيد الجهود على المستوى الجماعي لتنسيق العمل المشترك في تفاعلاتها مع الأطراف الدولية الأخرى.
لا ينكر أحد الإنجاز الذي تحقق على المستوى القومي العربي في مجال التعاون الاقتصادي كمجلس الوحدة الاقتصادية العربية ،اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية ،وفضلا عن ذلك محاولات مجلس الوحدة الاقتصادية في تحقيق الوحدة العربية على مستواها الاقتصادي من خلال مداخلها الأربعة: المدخل التجاري ،المدخل الإنتاجي ،تنسيق خطط التنمية في الوطن العربي ،وتنسيق الموقف العربي تجاه الاقتصاد العالمي ،وهي خطوات جدية تم تحقيقها وصولا إلى منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى إلا أن هذه الجهود تبقى محدودة الفاعلية ما لم تدعم بإستراتيجية شاملة للتكامل الاقتصادي أهم شروطها رفض المشروعات التي تطرح بين الحين والآخر تحت مسميات جديدة كالشرق أوسطية أو المتوسطية والتي تحمل أهدافا خفية لا تخدم الوحدة العربية مرورا بتجاوز الخلافات البينية التي ولدّها تعارض الإرادات السياسية ،وهنا نجد أنفسنا بصدد الإعداد لاقتصاد متكامل بصورة منطقية تعبّد لنا -تدريجيا- طريق الوحدة العربية متعددة القطاعات ،وهو ما سارت عليه ونجحت في تحقيقه الدول الأوربية التي سبق الحديث عنها .
إن وضع المصلحة المشتركة فوق كل اعتبار ،والعمل بإخلاص إلى الانتماء القومي والهوية العربية ،واعتبارات الأمن والقوة العربية المطلوبة ...صارت من أسس البديل الإيجابي لتحقيق الإتحاد العربي الذي يعد التكامل الاقتصادي أهم ركائزه.




عبدالله شوتري
ناشط شبابي و باحث في العلاقات الدولية